تعليق قانوني على قرار محكمة النقض بشأن مناقشة ملف جنحي رغم غياب دفاع المتهم

sadaalbarlaman6 يونيو 2025آخر تحديث :
تعليق قانوني على قرار محكمة النقض بشأن مناقشة ملف جنحي رغم غياب دفاع المتهم

الأستاذ زكرياء الغلماني*الرباط:”صدى البرلمان”//- صدر قرار محكمة النقض المغربية عدد 902/12 بتاريخ 15 ماي 2025 في سياق قضائي حساس، حيث تضمن إلغاء حكم صادر عن غرفة الجنح الاستئنافية بمحكمة الاستئناف بأكادير، التي كانت قد ناقشت ملفًا جنحيًا رغم غياب دفاع المتهم.

هذا الغياب لم يكن وليد تقاعس أو إخلال بالواجب، بل كان نتيجة تنفيذ المحامين لبلاغ صادر عن نقيب هيئة المحامين بأكادير بتاريخ 20 دجنبر 2021، انسجامًا مع حركة وطنية شاملة أعلنت خلالها كافة هيئات الدفاع في المغرب التوقف الجماعي عن ممارسة مهامهم، احتجاجًا على ما اعتُبر تهديدًا حقيقيًا لمهنة المحاماة واستقلالها، في ظل موجة من الإجراءات والتشريعات المثيرة للجدل، من بينها مشروع قانون مهنة المحاماة، والتعديلات الجبائية، ومقترحات قانون المسطرة الجنائية، إضافة إلى قرارات إدارية من قبيل منع المحامين من ولوج المحاكم دون الإدلاء بجواز التلقيح ضد فيروس كوفيد-19.

في ظل هذه المعطيات، تثار إشكالية قانونية وحقوقية جوهرية تتمثل في مدى مشروعية مناقشة المحكمة لجوهر الدعوى في غياب الدفاع، ومدى اتساق هذا الإجراء مع الضمانات الدستورية المتعلقة بحقوق المتقاضين. إذ تنص الفقرة الأولى من الفصل 120 من دستور المملكة المغربية على أن “كل شخص له الحق في محاكمة عادلة، وفي الدفاع عن حقوقه”، وهو ما يجعل من حضور الدفاع ليس مجرد إجراء شكلي، بل أحد أعمدة المحاكمة العادلة التي لا تستقيم العدالة بدونها. كما ينسجم هذا المنحى مع الفصل 111 الذي يُقر بوضوح أن من بين الضمانات الأساسية التي يجب صيانتها داخل المنظومة القضائية، ضمانات الدفاع.

وقد اعتبرت محكمة النقض، في قرارها موضوع التعليق، أن غياب المحامي بسبب دعوة مهنية جماعية معلنة لا يمكن تحميل تبعاته للمتهم، ولا يمكن اعتباره مبررًا لتجاوز الحق في الدفاع، مؤكدة أن مباشرة المحكمة لمناقشة القضية في غياب الدفاع يمس جوهر هذا الحق ويفضي إلى بطلان الإجراء. وهو توجه يُسجَّل لمحكمة النقض، باعتباره يُعيد التذكير بمبدأ أسمى مفاده أن السير السليم للجلسات لا يمكن أن يتقدم على جوهر العدالة وحقوق الإنسان، ولا يجوز أن يتحول التنظيم الإجرائي المسطري إلى وسيلة للمساس بالضمانات الجوهرية للمحاكمة.

هذا القرار لا يعكس فقط التزام القضاء الأعلى بالدستور، بل يترجم كذلك انسجامًا تامًا مع المعايير الدولية، وفي مقدمتها المادة 14 من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، التي تنص على ضرورة تمكين كل متهم من الوقت والتسهيلات الكافية لإعداد دفاعه، ومن التواصل الحر مع محاميه. وبذلك، يُعيد هذا الاجتهاد القضائي الاعتبار لمهنة المحاماة كمكون أساسي في إقامة العدالة، ويُبرز دورها كمؤسسة مستقلة، لا كمجرد مرفق تابع أو طرف ثانوي في العملية القضائية.

إن أهمية هذا القرار تتجاوز الواقعة التي صدر بشأنها، لتفتح نقاشًا أعمق حول العلاقة بين القضاء والدفاع، وحدود السلطة التقديرية للمحكمة في تسيير الجلسات، وكيفية تدبير حالات الغياب المهني الجماعي دون المساس بحقوق المتقاضين. فحضور الدفاع، خاصة في القضايا الزجرية والجنحية، ليس مجرد شكلية يمكن تجاوزها، بل ضمانة جوهرية لصون قرينة البراءة وتكريس المحاكمة العادلة في مضمونها لا في ظاهرها فقط.

وبصفتي متتبعًا لهذا الموضوع وممارس، فإنني أُثمن عاليًا هذا القرار الصادر عن أعلى سلطة قضائية في هرم العدالة المغربية، لما يحمله من جرأة حقوقية وقانونية، ولما يعكسه من وعي عميق بضرورة حماية التوازن داخل المنظومة القضائية، وعدم السماح بانزياح المحاكمة نحو الشكلانية على حساب الجوهر. إنه صوت الدفاع، صوت العدالة والحق، وقد انتصرت له محكمة النقض في لحظة دقيقة، بما يُعيد الثقة في القضاء كحامٍ للحريات وضامن للحقوق.

إن هذا القرار يجب أن يشكل منطلقًا لإعادة النظر في كيفية التعاطي المؤسساتي مع فترات المقاطعة أو التوقف المهني، وذلك عبر تطوير آليات تشاركية بين القضاء وهيئات المحامين، لضمان احترام الحقوق الدستورية من جهة، وعدم تعطيل مرفق العدالة من جهة أخرى، مع المحافظة على جوهر العدالة ومبادئها الكونية.

*محامي بهيئة المحامين بالرباط.

اترك تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


شروط التعليق :

عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

الاخبار العاجلة