توفيق الحياني:”صدى البرلمان”//- قررت محكمة الاستئناف بالدار البيضاء، مؤخرا، إلغاء حكم ابتدائي قضى بأداء التعويض لأجيرة عن الفصل والإخطار والضرر، من قبل مشغلتها، عقب إشعار الأجيرة بمرضها من خلال شهادة طبية عبر “واتساب”، عوض البريد الإلكتروني، الوسيلة المعتمدة لدى المشغلة، بعدما اعتبر القضاء أن ذلك “غير منتج لأثر قانوني” في التعامل داخل الشركة.
وتعود القضية، وفق تفاصيل القرار الذي نشر مؤخرا في موقع “هسبريس” والذي ألغى حكم المحكمة الابتدائية الاجتماعية بالبيضاء، في ما قضى به من أداء التعويضات المذكورة، والحكم من جديد برفض الطلب مع التأييد في الباقي (…) إلى تعرض الأجيرة لوعكة صحية ألزمتها فترة علاجية.
وقامت المعنية بعدها بـ”إعلام المدعى عليها عن مرضها بإرسال شهادة طبية عن طريق شبكة التواصل الاجتماعي ‘واتساب’ إلى مصلحة الموارد البشرية في شخص ممثلتها (..) كما جرى العمل به داخل المؤسسة”، بحسب المقال الافتتاحي.
وحسب المصدر ذاته فإن الأجيرة التي لم تكتف بهذا التبليغ، بل مكنت الشركة في وقت لاحق من الشهادة الطبية، و”تم التأشير عليها” بعد نهاية الفترة العلاجية وعودتها لاستئناف عملها، لكنها “فوجئت بتوقيفها ومنعها من الدخول الى مقر عملها (…) بدون سبب أو مبرر قانوني مشروع، بدعوى أن هناك نزاعا مع إدارة الشركة”.
وبعد فشل تسوية النزاع إثر اجتماع الطرفين لدى مفتش الشغل طالبت الأجيرة الشركة المدعى عليها في شخص ممثلها القانوني بأداء تعويضات عن الفصل والضرر وعن فقدان الشغل وعن العطلة السنوية وعن التعويضات اليومية، وتسليمها شهادة عمل تحت طائلة غرامة عن كل يوم تأخير.

وهكذا قضت المحكمة الابتدائية في حق المشغّلة بأداء تعويضات مالية لفائدة الأجيرة المدعية، عن الإخطار والفصل والضرر والعطلة السنوية والأجرة، فاقت مجتمعة 222 ألف درهم، مع تسليمها شهادة العمل تحت طائلة غرامة تهديدية قدرها 100 درهم عن كل يوم امتناع عن التنفيذ.
هذا الحكم الابتدائي لم تقبل به الشركة المشغلة، التي تمسكّت في الحكم الاستئنافي بأنه لم يسبق لها أن فصلت الأجيرة عن العمل، وأن “المستأنف عليها هي التي تغيبت عن العمل لمدة تفوق 25 يوما”، وذلك “بدون مبرر قانوني ومن دون أن تشعر مشغلتها لا بغيابها ولا بسببه داخل أجل 48 ساعة”، طبقا للقانون.
ونازعت الشركة كذلك في كون محادثة “واتساب” التي أدلت بها الأجيرة متعلقة بها أو بأحد أجرائها، وفي اعتيادها على اعتماد تطبيق “واتساب” كوسيلة رسمية للتواصل مع أجرائها، بل أكدت أن لها مكتب ضبط مخصصا لتلقي جميع الرسائل والبعثيات كيف ما كان نوعها، وأن الأجيرة “لم ترسل الشهادة الطبية حتى عبر البريد الإلكتروني المهني الذي يمكن للعارضة أن تقبله بصفة احتياطية عند استفائه الشروط المستلزمة قانونا”.
وجاء في تعليل المحكمة الابتدائية لحكمها أن “المادة 271 من مدونة الشغل تنص على أنه يجب على كل أجير تعذر عليه الالتحاق بشغله بسبب مرض أو حادثة أن يبرر ذلك ويشعر مشغله خلال الثماني والأربعين ساعة الموالية لذلك، إلا إذا حالت القوة القاهرة دون ذلك”.
واتضح للمحكمة ذاتها من خلال هذه المادة أن “المشرع لم يحدد أو يحصر وسائل أو آليات معينة ينبغي بواسطتها تبليغ الشواهد الطبية للمشغل من أجل إشعاره بمدة التغيب للمرض”.
ورغم ذلك أكدت محكمة الاستئناف بالدار البيضاء في حكمها أن “التنظيم يفرض التعامل بالوسائل القانونية”، وأن “توجيه الرسالة عبر واتساب” إلى المسؤولة عن الموارد البشرية “وليس عبر البريد الإلكتروني باعتباره وسيلة التواصل المعتمدة لدى المشغلة…. يجعل من هذا الإجراء (رسالة الواتساب) غير منتج”.
وتابع المصدر نفسه: “خاصة أن المشغلة تمسكت بعدم التوصل بها، كما عجزت الأجيرة عن إثبات كون تطبيق واتساب من الوسائل المتاحة للتواصل مع المشغلة”.
وبذلك ارتأت المحكمة أن الأجيرة تبقى “هي من أنهت علاقة الشغل بإرادتها، وبالتالي غير مستحقة للتعويض عن الإخطار والفصل والضرر”.
من جهته علق الأستاذ زكرياء الغلماني المحامٍي بهيئة الرباط على هذا الحكم بما يلي :

في زمن تشهد فيه التكنولوجيا طفرة هائلة طالت مختلف مناحي الحياة، لم يعد من الغريب أن يتسلل تطبيق بسيط للمراسلات – مثل “واتساب” – إلى صميم العلاقات المهنية، بل وحتى القضائية. غير أن ما يدعو للتأمل حقاً هو الطريقة التي تفاعل بها الجسم القانوني المغربي مع إحدى القضايا الحديثة التي طرحت هذا الإشكال بحدة.
القضية موضوع النقاش تتعلق بإحدى الأجيرات التي تقدمت بشهادة طبية إلى مشغلتها عبر رسالة “واتساب”، قبل أن تجد نفسها في مواجهة قرار بالفصل بسبب “الغياب غير المبرر”.
محكمة الدرجة الأولى اعتبرت، بكل جرأة، أن وسيلة التبليغ المعتمدة (واتساب) كافية لإثبات العذر المرضي، معتبرة أن التطبيق بات من الأدوات المتداولة في الحياة المهنية اليومية، ما شكل آنذاك اجتهادًا جريئًا واستثنائيًا تفاعل معه عدد من المشتغلين في الحقل القانوني بكثير من الإيجابية، بل ورأى فيه البعض خطوة نحو “قضاء رقمي مواكب للعصر”.
غير أن هذا الانفتاح لم يصمد طويلاً. فمع صدور قرار محكمة الاستئناف بالدار البيضاء في يونيو 2025، والذي ألغى الحكم الابتدائي، انقلب المشهد تماماً. تراجع الحماس، وبرز خطاب قانوني محافظ يشدد على أن “واتساب” ليس وسيلة تبليغ قانونية وفقًا للمقتضيات التنظيمية الجاري بها العمل، خصوصًا في المادة الشغلية حيث تحيط المشرع بالشكليات بحذر وصرامة. وباتت النغمة السائدة أن الاعتراف بمثل هذه الوسائل يشكل “مخاطرة” قد تمس بالأمن القانوني.
هذا التذبذب في الخطاب، بين التهليل المفرط لاجتهاد حديث والنقد القاسي له عند أول مراجعة استئنافية، يكشف عن هشاشة منهجية في تعاطينا مع المستجدات القانونية التي تفرضها التحولات الاجتماعية والتكنولوجية. كما يؤكد على غياب مرجعية موحدة في تأويل وسائل الإثبات المعاصرة، ويدعو، في نظري، إلى شيء من التريث المؤسسي إلى حين صدور قرار واضح ومعلل عن محكمة النقض باعتبارها الجهة العليا المؤهلة لتوحيد الاجتهاد القضائي.
لسنا ضد التجديد، ولسنا مع الجمود. نحن فقط في حاجة إلى مقاربة متوازنة، لا تتسرع في مصادرة الاجتهاد باسم التقليد، ولا تُقحم التكنولوجيا دون ضوابط باسم العصرنة.
بين “الواتساب” و”الإشعار بالبريد المضمون” مسافة قانونية لا بد من تنظيمها بنص واضح، يحسم الجدل، ويمنع التقدير المرتجل.
إلى حين ذلك، سيبقى هذا الملف نموذجًا دالًا على المخاض الذي يعيشه العقل القانوني المغربي في محاولته التوفيق بين إرث تقليدي راسخ، وتحولات تقنية تفرض إيقاعها بقوة الواقع.