بقلم: ذ. زكرياء الغلماني* :”صدى البرلمان”//-أصبحت المسؤولية الطبية من أكثر الموضوعات حضوراً في النقاش القانوني والقضائي، بالنظر إلى ما تعرفه المنظومة الصحية من تحولات عميقة وتداخل بين المعطى العلمي والتقني والإنساني. وقد أدى تنامي الشكايات المتعلقة بالأخطاء الطبية إلى بروز الحاجة إلى إعادة صياغة الإطار القانوني المنظم لهذه المسؤولية، خاصة مع ظهور أنماط جديدة في الممارسة الطبية، من قبيل الاستشارة عن بعد، والوصفة الطبية الإلكترونية، والتشخيص عبر الهاتف أو تطبيقات التواصل الاجتماعي.
ويُعرَّف الخطأ الطبي، فقهاً وقضاءً، بأنه إخلال الطبيب بالتزامه ببذل العناية اللازمة وفقاً للأصول المتعارف عليها في مهنته، مما يؤدي إلى إحداث ضرر للمريض. وقد عرف هذا الخطأ تطوراً تاريخياً لافتاً، خاصة مع قرار Mercier الشهير سنة 1936 الذي اعتبر أساس العلاقة بين الطبيب والمريض التزاماً ببذل العناية، وهو ما تبنّاه القضاء المغربي لاحقاً مع ملاءمات تتناسب والخصوصية الوطنية.
ومع توسّع الممارسة الطبية، بات من الضروري إعادة قراءة هذا المفهوم في ضوء التحولات الرقمية، لاسيما حين يتلقى المريض وصفة دوائية أو تشخيصاً طبياً عبر الهاتف أو الواتساب دون فحص سريري مباشر.
الخطأ الطبي: مظاهره وحدوده في التشريع والاجتهاد
1. الخطأ في التشخيص
يُعد التشخيص حجر الأساس في العملية العلاجية، وأي خلل فيه يجرّ معه سلسلة من الانحرافات قد تؤدي إلى نتائج وخيمة. وقد استقر القضاء المغربي والفرنسي على اعتبار التشخيص الخاطئ خطأً مهنياً متى ثبت أن الطبيب لم يتخذ الاحتياطات والفحوص اللازمة.
ومع انتشار الممارسة عن بعد، أصبحت بعض التشخيصات تتم عبر مكالمات هاتفية أو رسائل مكتوبة، مما يجعل الطبيب يعتمد على وصف غير دقيق أو غير مكتمل للأعراض، وهو ما يرفع بشكل ملحوظ احتمالات الوقوع في الخطأ.
2. الخطأ في وصف الدواء
وصف الدواء لا يقل خطورة عن التشخيص، بل هو امتداده المباشر. وقد ترتبت مسؤوليات مدنية عديدة عن:
وصف أدوية لا تناسب الحالة الصحية للمريض،
تحديد جرعات غير ملائمة،
إغفال تفاعلات دوائية خطيرة،
عدم الأخذ بعين الاعتبار سوابق المريض المرضية.
وتتفاقم هذه المخاطر حين يقوم الطبيب بتحرير وصفة عبر الهاتف أو إرسالها عبر الواتساب دون أن يعاين المريض، مما يجعل الوصفة مبنية على معطيات غير مؤكدة علمياً، وهو ما اعتبره بعض الفقه الفرنسي خطأً جسيماً ينافي واجب اليقظة المفترض في الطبيب.

3. الخطأ الناتج عن مخالفة القواعد القانونية والتنظيمية
مزاولة مهنة الطب تخضع لقواعد دقيقة حددها القانون رقم 131.13، تنص على ضرورة احترام شروط الفحص الطبي، وتوثيق المعطيات، والحفاظ على سجلات متكاملة.
ولئن كان الطب عن بعد ممارسة مألوفة في العديد من الدول، فإن التشريع المغربي لم يؤطره بشكل واضح بعد، مما يجعل الطبيب الذي يرسل وصفة عبر الهاتف عرضة للمساءلة لغياب الأساس القانوني الذي يجيز هذا النوع من الممارسة أو ينظم ضوابطه.
الوصفة الطبية عبر الهاتف والواتساب: مسؤولية قائمة أم مجال رمادي؟
أصبحت هذه الممارسة شائعة، خصوصاً في الوسط الحضري، نظراً لتزايد الضغط على العيادات الطبية، وسعي المرضى لطلب المساعدة الطبية السريعة. غير أن هذه الظاهرة تثير إشكاليات قانونية جدية، من أهمها:
غياب المعاينة المباشرة، التي تعدّ شرطاً أساسياً للتشخيص.
غياب سجل طبي موثق يتضمن فحصاً دقيقاً لحالة المريض.
إمكانية تقديم معلومات غير دقيقة من طرف المريض.
انعدام أساس قانوني تنظيمي يحدّد مدى مشروعية هذه الممارسة.
وعليه، فإن الوصفة الطبية عبر الهاتف أو الواتساب، في غياب حالة استثنائية أو إطار قانوني منظم، يمكن أن تؤدي إلى ثبوت مسؤولية الطبيب المدنية متى ترتب عنها ضرر، لأنها تشكل انحرافاً عن أصول المهنة.
خاتمة ورأي شخصي: نحو تشريع جديد يواكب التطور ويحمي المواطن
إن التحول الرقمي الذي يشهده العالم لم يعد اختياراً بل ضرورة، والطب ليس استثناءً. وإذا كان بعض الأطباء يلجأون إلى الوصفات الهاتفية بدافع إنساني أو لسدّ الخصاص، فإن ذلك لا يعفيهم من المسؤولية المهنية، ولا يضمن حماية المريض.
وانطلاقاً من ذلك، أرى أنه أصبح من اللازم أن يتدخل المشرع المغربي لإصدار نص قانوني حديث يؤطر الطب عن بعد والوصفة الإلكترونية، على غرار التشريعات المقارنة، ويتضمن ما يلي:
تحديد شروط الممارسة الطبية عن بعد، بما يضمن الحد الأدنى من السلامة الطبية.
تقييد الوصفة الطبية عن بعد بحالات استثنائية وبضوابط دقيقة.
إقرار واجب توثيق جميع الاتصالات الطبية الرقمية.
إحداث نظام تأمين خاص بالطب عن بعد يوازن بين حماية المريض وضمان حقوق الطبيب.
وضع آليات للمراقبة والتأطير المهني لمنع الانحرافات.
إن حماية صحة المواطن تستلزم تطوير التشريع بما ينسجم مع التطور العلمي والتقني، ويضمن ممارسة طبية آمنة ومسؤولة، في زمن أصبحت فيه التكنولوجيا جزءاً لا يتجزأ من الحياة الصحية.
ذ. زكرياء الغلماني* : محام بهيئة المحامين بالرباط/ عضو منتدى كفاءات إقليم تاونات














