زكرياء الغلماني*- الرباط:”صدى البرلمان”//- لم يكن “المعطي” شخصًا يبحث عن الصدامات، ولا ممن تعودوا إغلاق الأبواب في وجه من يطرقها بنية الصلح.
محامٍ صار له أكثر من عشر سنوات في المهنة، تعوّد أن يفصل بين مشاعره الشخصية وملفاته المهنية، كما تعوّد أن يمشي في الحقول دون أن تدميه الأشواك.
في ظهيرة يوم خريفي دافئ، وبينما كان يتصفح أوراق أحد الملفات، رنّ هاتفه. الاسم على الشاشة أعاد له ذكريات الدراسة: “الحسين”، صديق العمر، رفيق الأيام الصعبة، الرجل الطيب الذي لا يتحدث إلا عندما يكون للكلام قيمة.
– “السلام عليكم المعطي… أزعجتك؟”
– “أبدًا، مرحبًا بالحسين، خيرًا؟”
– “بصراحة… هناك شخص أعرفه، موكلك السابق، طلب مني أستفسرك حول نزاع وقع بينكما. يقول إنك لم تكن منصفًا معه.”
ابتسم المعطي بحزن خفيف. كان يتوقع أن يمتد هذا الخلاف خارج أسوار المكتب، لكن لم يكن يتوقع أن يُجَرّ عبر شبكة العلاقات الإنسانية.
– “الحسين، بما أنك أنت من تسأل، سأخبرك بالحقيقة كما هي.”
وبدأ يروي.
بكل هدوء ودقة، شرح حيثيات الملف: كيف بدأ التعاقد، وما وقع من إخلالات، وكيف تطور سوء التفاهم حتى انتهى بانفصال مهني، دون خصومة شخصية. كان الكلام متزنًا، من رجل يعرف ما يقول.
أنهى الحسين المكالمة بكلمات مطمئنة:
– “فهمت الآن… سأكلّمه وأخبره أن يستمع إليك قبل أن يحكم. لأنه بصراحة، لا يجوز أن نبني أحكامنا على رواية واحدة.”
انتهت المكالمة، وانتهى معها جزء من الثقل الذي كان المعطي يشعر به. لكنه لم يعلم أن ما ينتظره أبعد ما يكون عن الصلح.
في اليوم التالي، اتصل به صديق آخر، “يوسف”، رجل يعرفه جيدًا ويثق برأيه.
– “المعطي، سمعت كلامًا غريبًا عنك. قال لي أحدهم – لن أذكر اسمه – أنك أسأت إلى موكلك، وخنت الأمانة، وأشياء من هذا القبيل.

فقلت لنفسي: مستحيل أن يكون هذا هو المعطي الذي أعرفه… فاتصلت لأسمع منك مباشرة.”
هذه المرة، لم يكن المعطي بنفس الهدوء. لم يكن غاضبًا، لكنه كان مثقلاً بالخذلان.
– “يوسف، أقدر اتصالك، وأخبرك بالحقيقة. ما قيل لك ليس فقط كذبًا، بل هو محاولة واضحة لتشويه سمعتي. يبدو أن صاحبك لم يقتنع بردّي على الحسين، فقرر أن يبحث عن منبر جديد، ليواصل روايته المسمومة.”
استمع يوسف بانتباه، ثم قال:
– “واضح. لا أرى ما يدفعني للتدخل في خلاف مهني، وأنا لا أتحمل مسؤولية الترويج للباطل. الموضوع بينكما، ولكل طريقته.
انتهت المكالمة، لكن النار اشتعلت.
المعطي أحس أن الأمر خرج من كونه خلافًا إلى محاولة مقصودة للمس بالسمعة، وهي حدود لا يقبل أن تُمسّ. فكر جديًا في تحرير شكاية، لأن الكرامة ليست مجالًا للتسامح المستمر.
لكن في المساء، رن الهاتف مرة ثالثة. كان الحسين.
– “المعطي… أرجوك. لا تتخذ أي إجراء الآن. سأكلمه، وسأبلغه أن يتوقف.
وإن لم يفعل، فلا تنتظر مني أي تدخل بعدها، وتصرّف كما تراه مناسبًا.”
صمت المعطي لحظة، ثم قال بهدوء:

– “الحسين، أنا لا أبحث عن المشاكل، ولا أحب أن أجرّ أحدًا إلى المحاكم. لكنني كذلك، لا أقبل أن تُغتال سمعتي باسم الصداقة أو المجاملة.”
أغلق الهاتف، وسحب دفتره الجلدي الأسود من الدرج.
كتب فيه بخط واضح:
“في المهنة، كما في الحياة، هناك من يخطئ ثم ينسحب بهدوء، وهناك من يخطئ ثم يحاول أن يغطّي فشله بالافتراء. الأول يُسامح، والثاني يُجابَه.
- الاستاذ زكرياء الغلماني* :محامي بهيئة المحامين بالرباط