قراءة في قرار المحكمة الدستورية بشأن قانون المسطرة المدنية بقلم ذ. محمد الباكير

sadaalbarlaman25 أغسطس 2025آخر تحديث :
قراءة في قرار المحكمة الدستورية بشأن قانون المسطرة المدنية بقلم ذ. محمد الباكير

بقلم د. محمد الباكير*:”صدى البرلمان”//-صدر أخيرا قرار المحكمة الدستورية المنتظر حتى قبل إحالة نص قانون المسطرة المدنية عليها. ولربما يكون هذا النص هو أول قانون يجمع كافة المتدخلين من وزير عدل ورجال قانون ونواب برلمانيين ورئاسة مجلس النواب على ضرورة إحالته على المحكمة الدستورية قبل أن يتم عرضه على الجلسة العمومية للمصادقة عليه!.

 وكأن لسان حالنا يقول إن هناك قوة قاهرة أرغمت المشرع على القبول به والرضوخ إلى توجه الحكومة بشأنه رغم عدم الثقة في سلامة مضامينه، وإن الأمل معقود على المحكمة الدستورية لمعالجة العجز الاستثنائي للمؤسسة التشريعية، بما يفترض في هذه المحكمة من نأي عن النزعات السياسية وحياد عن التجاذبات المؤسساتية والنعرات المتحيزة هنا وهناك.
على كل حال، يمكننا أن نتأكد من أن شيئا ما غير طبيعي كان يقبع على أنفاس المؤسسة التشريعية ويكتم الأصوات الناقدة داخلها بمجرد إلقاء نظرة على عدد ممثلي الأمة الذين حضروا جلسات المناقشة التفصيلية للجان المتخصصة، وعددهم خلال الجلسات العمومية المقررة للمصادقة! .

كما يمكننا أن نتأكد من ذلك بملاحظة أن الإحالة على المحكمة الدستورية قد تمت في 09 يوليوز 2025 برسالة من رئيس مجلس النواب بمجرد أن تمت المصادقة على المشروع من طرف مجلس المستشارين إثر القراءة الثانية دون انتظار التوصل بالنص النهائي، استعجال استثنائي جعله يخاطر بارتكاب خلل إجرائي حين أرفق رسالته بنسخة من النص المصادق عليه من طرف مجلس النواب في 17 يونيو بينما كان عليه توجيه النص النهائي المعتمد من مجلس المستشارين في 08 يوليوز!.

 ولولا أن المجلس تجاوز الأمر واستحضر هذه الأخيرة من مجلس المستشارين، ولولا أنه لم يكن هناك من إضافة أو تعديل ما عدا تصحيح خطأ مادي مجرد وحيد، لكان مصير الإحالة عدم القبول! قد يقول قائل: مجرد مصادفات! ولم لا؟ لكن ماذا عن أن الإحالة قد جاءت مطلقة دون تحديد النصوص المراد فحص دستوريتها ولا تقديم دواعي الملتمس؟.
على كل حال، تبقى هذه تكهنات أو آراء خارجة عن نطاق التحليل القانوني المراد في هذه الورقة، ارتأيت أن أشاركها مع القارئ الكريم لعلها تفتح بعض أبواب التفكير والبحث حول الخلفيات التي حكمت الإخراج الاستثنائي لهذا القانون.
أثار صدور قرار المحكمة الدستورية هذا « صيحات نصر » لعدة جهات، تحولت في بعض الحالات إلى « صرخات شماتة » في مواقف الحكومة وعلى الخصوص مواقف وزير العدل الذي دافع باستماتة غير معهودة على اختيارات وزارته.

 وأود بداية أن أقول إن الأمر لا يستحق كل هذه الضجة. من جهة أولى، لأن دور المحكمة الدستورية الطبيعي هو مراقبة دستورية النصوص التشريعية في إطار ديمقراطي يضمن التوازنات الدستورية. ولو كان للصيحات المذكورة مكان لوجب أن تصدح بها الحناجر وقت خلق المحكمة الدستورية التي يشكل وجودها ضابطا أساسيا ورقابة جوهرية على عمل المشرع، ومن ثم على توجهات العمل الحكومي.

ومن جهة ثانية، لكون ما قامت به المحكمة من تقرير عدم دستورية بعض نصوص هذا القانون ليس حكما سياسيا تقاس به مشروعية التوجهات الحكومية، بل يفترض به أن يكون موجها قانونيا وضابطا للتوازنات الكبرى للقانون المسطري.

وقد كنت أود لو تحرك الفاعلون المؤسساتيون من قبل لإخضاع قانون التنظيم القضائي نفسه للرقابة الدستورية، كما كنت أود لو أفرغت مدونة الأخلاقيات القضائية في صيغة قانون يعرض بدوره على الفحص الدستورية، وذلك نظرا لما تضمناه من مبادئ عامة وضوابط كلية للنشاط القضائي، بعدما عرضت عليها باقي القوانين التنظيمية المتعلقة بالمجال القضائي، حتى تكتمل الصورة.

ومن جهة ثالثة، أرى أن الضجة « الشامتة » التي صاحبت قرار المحكمة سابقة لأوانها كثيرا! وذلك أن النظر المتبصر لتفاصيل القرار قد يجعلنا أقرب إلى التشاؤم بما حمله من اختلالات وتلبيسات فضحت اختلاط الأمر على المحكمة وفتحت الباب أمام قيام الحكومة وأغلبيتها في المؤسسة التشريعية بإصدار نصوص مدمرة تهدم التوازنات المسطرية الكبرى ولا تبالي.
يستحق قرار المحكمة الدستورية في الواقع دراسات مطولة ونقاشات معمقة حول مضامينه وتداعياته على المنظومة القضائية ومبادئها الأساسية لا تتسع لها هذه الورقة حتما.

ونظرا لجدية الموضوع وخطورته، ونظرا لطابعه الاستعجالي، فقد آثرت أن أشارك مع القراء من رجال ونساء القانون وأعضاء المؤسسة التشريعية، علاوة على أعضاء المحكمة الدستورية، أهم الإشكالات التي تنضح بها سطوره وتضج بها المساحات البيضاء بين هذه السطور، مما صرحت به أو أضمرته، في صيغة ملاحظات شديدة الاختصار، لعلها تكون إضاءة على الطريق قبل أن تعيد الحكومة والبرلمان تصحيح ما أوقفت المحكمة إصداره راجيا أن تكون مساهمتي المتواضعة هذه معينا على تصويب العمل وإدراك الصواب.
وسوف أخصص هذه الورقة لجزء القرار المخصص لفحص دستورية المادة 17 من القانون 02-23 فقط، على أن أخصص بعدها ورقة إضافية للجزء الخاص بمناقشة المادتين 408 و 410.


ملاحظات أولية:
يتعلق الأمر هنا بملاحظات عامة على مسطرة فحص الدستورية والنهج الذي اتخذته المحكمة بشأن تحديد نطاق الفحص، وإطار المنطوق، وتحديد أثر القرار على مسطرة الإصدار.


أولا: بشأن موضوع الفحص الدستوري
لقد سبق معنا أن رسالة الإحالة على المحكمة من طرف رئيس مجلس النواب (دون باقي الجهات المخول لها طلب فحص الدستورية) لم تحدد مواد بعينها، ولم ترفق بمذكرة لعرض الحيثيات والدواعي. وهو ما اعتبرته المحكمة إحالة مطلقة لمجمل النص، ومدا ليدها على كل بنوده ومقتضياته علاوة على مسطرة إقراره والتصويت عليه.

لكن المحكمة – على ما يبدو – لم تكن تملك الوقت والإمكانيات اللوجستية اللازمة لبسط رقابة تفصيلية على كل القانون، فقررت حصر نطاق رقابتها على جزء منه فقط. فكيف فعلت ذلك وبأي معيار؟.
لقد حصرت المحكمة عملها على المواد 17، 84، 90، 107، 364، 288، 339، 408، 410، 624 و 628، وكذا على الإحالات على المادة 84 في باقي المواد. ثم اكتفت في سياق منطوقها بالتصريح بأنه  »لا حاجة لفحص باقي المواد والمقتضيات ». فهل استندت المحكمة في ذلك إلى معيار موضوعي ما؟.
كلا! لقد صرحت في مقدمة قرارها بأنه قد  »تراءى لها أن تثير فقط المقتضيات والمواد التي بدت لها بشكل جلي وبين أنها غير مطابقة للدستور أو مخالفة له »! هكذا دون مزيد تعليل… وهذا يستدعي قول ما يلي:
أولا: إن الإحالة كانت عامة دون تخصيص، وهو ما يفرض على المحكمة الدستورية بسط رقابتها على كل النص. وهي باستنكافها عن ذلك تكون قد امتنعت عن القيام بعملها، ولم تستنفذ مهمتها الدستورية.
ثانيا: لقد صرحت بأنها انطلقت في انتقائها للنصوص مما ظهر لها ابتداء و قبل أي فحص بأنها مقتضيات غير دستورية. وهذا معناه أنها قد انكبت على تلك النصوص انطلاقا من حكم مسبق ومتحيز بأنها غير دستورية! .

بمعنى أنها لم تكن تفحص مدى دستوريتها، بل تبحث عن مبررات لبسط رقابتها عليها بعدما انطلقت من مسلمة عدم دستوريتها! وهو ما سيفسر فيما بعد أسلوبها في صياغة حيثياتها.
ثالثا: إنها تقر بأنها لم تمارس رقابتها على باقي المواد، فكيف إذن استطاعت أن تبرر إصدار قرار لا تستطيع من خلاله الجزم بدستورية أو عدم دستورية نص لم تراقب منه سوى أقل من 2% ؟.


ثانيا: بشأن إطار المنطوق
نتيجة لما سبق، ونظرا لكونها لم تقم بفحص كل القانون، فلم يكن أمام المحكمة من بد سوى أن تهمل الإشارة إلى باقي النصوص التي لم يشملها نظرها. ولذلك نجدها قد قررت عدم مطابقة النصوص المذكورة أعلاه أو مخالفتها للدستور، لكنها لم تقرر شيئا بخصوص باقي المواد، خلافا للأصل.

فما دامت لم تقرر شيئا بخصوص دستورية قرابة 99 في المائة من القانون، فماذا فعلت إذن؟.


ثالثا: بشأن أثر القرار على إصدار القانون
تنص المادة 27 من القانون التنظيمي المتعلق بالمحكمة الدستورية على أنه إذا ارتأت هذه الأخيرة أن المقتضيات أو المواد المقدرة عدم دستوريتها تقبل العزل أو الفصل عن باقي القانون دون إخلال به، فإنها تملك السلطة في إصدار قرار يتضمن ذلك، وهو ما يسمح بإصدار القانون ودخوله حيز التنفيذ دون ما تقررت عدم دستوريته.
وإذا عدنا إلى المواد (وأجزاء المواد) المقرر مخالفتها للدستور، فسوف نجدها على الإجمال لا تحول دون إخراج باقي القانون إلى الوجود. فالمادة 17 ليست ذات صلة بالباقي. والجزء غير الدستوري من 84 يقبل العزل من النص.

 والمقتضى المتعلق بالمحاكمة عن بعد من المادة 90 يقبل السحب منها دون إضرار بالباقي. والمقتضى الذي يمس حقوق الدفاع في المادتين 107 و 364 قابل للحذف منهما. والإحالة الواردة في 288 على 284 بدل 285 علاوة على قابليتها للفصل فإنها أصلا مجرد خطأ مادي لا يرقى إلى القول بعدم الدستورية، ونصوص القوانين تعج بما هو أقبح منها.

 والجزء غير الدستوري في 339 يقبل الحذف دون إضرار بالباقي. أما ما عابته المحكمة على الصلاحية المسندة لوزير العدل في 408 و 410 فإنه – على الرغم من التكلف الواضح فيه – قابل للفصل من الباقي دون مشاكل.

ولا يبقى سوى تحفظ المحكمة على 624 و 628 بشأن مسك النظام المعلوماتي، وهو ما يقبل بسهولة عزله عن باقي القانون دون أي مشاكل تذكر.
فلماذا آثرت المحكمة السكوت عن ذلك، وعاقت صدور كل القانون، رغم أنها فعلت ذلك في قوانين أخرى، وما القانون التنظيمي المتعلق بالنظام الأساسي للقضاة منا ببعيد وقد كانت حالته أكثر تعقيدا؟

 لا أريد الدخول في تكهنات سياسية أو قراءات للصراعات المؤسساتية التي ترافق النص، لكنني أرى أنها قد عرقلت بشكل غير مبرر صدور قانون حيوي طال انتظاره، واستغرقت صياغته ووصوله إلى البرلمان قرابة عقدين من الزمن دون مبررات موضوعية مقبولة. والظاهر أن المحكمة قد عانت من ضغوط قوية انعكست كذلك على جودة مناقشتها لتلك الحفنة من المواد التي تمكنت من مراقبتها.

ملاحظات حول مناقشة المادة 17:
على الرغم من أن مناقشة الفقرة الأولى من المادة 17 والوصول إلى نتيجة القول بعدم دستورية لم يتطلب من المحكمة سوى أقل من صفحة، غير أنها ضمت في حيثياتها دلالات ومعان من الخطورة والأهمية بمكان.

فبعد استحضارها للمقتضيات الدستورية التي ارتأت علاقتها بالمناقشة، خصصت المحكمة لتبرير عدم دستورية هذه الفقرة أربع حيثيات سوف نعرض مضمونها أولا قبل أن نصوغ بشأنها ملاحظاتنا.
أولا: مضامين حيثيات القرار.
استحضرت المحكمة الدستورية من الدستور ثلاثة مقتضيات: أولها الفقرة الأولى من الفصل السادس، التي تنص على أن  »القانون أسمى تعبير عن إرادة الأمة ».

وثانيها، ما نص عليه الفصل 117 من أن القاضي يحمي الأمن القضائي للأفراد والجماعات. وثالثها، ما جاء في الفقرة الثالثة من الفصل 126 من أن  »الأحكام النهائية الصادرة عن القضاء ملزمة للجميع ». ثم استثمرت ذلك في حيثياتها الأربع اللاحقة كما سنفككها فيما يلي:


مضمون الحيثية الأولى:
قررت المحكمة الدستورية في هذه الحيثية ما يلي:
1- أن إبطال  »المقرر القضائي الحائز لقوة الشيء المقضي » مقبول دستوريا، شريطة أن يقوم بذلك القضاة الممارسون فعليا لمهامه القضائية بمحاكم التنظيم القضائي.
2- لم تأت على ذلك بمبرر دستوري أو قانوني، وإنما استدعت مقتضيات الفقرة الأخيرة من المادة 2 من القانون التنظيمي المتعلق بالمجلس العلى للسلطة القضائية.


مضمون الحيثية الثانية:
قررت المحكمة في هذه الحيثية ما يلي:
1- أن مهمة حماية النظام العام والعمل على صيانته منوطة بالنيابة العامة. غير أنها لم تدل بما يبرر ذلك دستوريا ولا قانونيا، ولم تحدد مضمون  »النظام العام » الذي تقصده.
2- أن إسناد صلاحية طلب التصريح ببطلان المقرر القضائي المشار إليه في المادة 17 (أي الذي من شأنه مخالفة النظام العام) إلى النيابة العامة أمر لا يخالف الدستور.
3- اعتبرت أن الدستور قد وضع  »مبدأ الأمن القضائي ».

غير أنها لم تعط أي مضمون لهذا المبدأ ولم تعرفه ولم توضح محدداته. وأوردت هذا المبدأ في أسلوب المقابلة أو المعارضة بصيغة  »وإن كان القانون قد … فإن نفس الدستور كفل بمقتضى مبدأ الأمن القضائي … ».
4- استندت إلى  »مبدأ الأمن القضائي » لتقرر أن الدستور كفل للمحكوم لصالحهم الحق في التمسك بحجية المقررات القضائية الحائزة لقوة الشيء المقضي به، وإنفاذ آثارها.


مضمون الحيثية الثالثة:
1- في هذه الحيثية، استعملت المحكمة مفهوم  »النظام العام في مجال التنظيم الإجرائي للدعاوى المدنية »، دون تفسير! علما أن موضوع المادة 17 تحدث عن  »مخالفة المقرر القضائي للنظام العام » وليس عن هذا الذي أسمته المحكمة  »النظام العام في مجال التنظيم الإجرائي للدعاوى المدنية »..
2- قررت المحكمة أن حماية النظام العام بهذا المعنى هدف مشروع لا يخالف الدستور.
3- غير أن المحكمة عادت وقيدت سعي المشرع إلى فتح هذه المسطرة (المادة 17) بقيد  »استنفاد صلاحيته في التشريع »، وذلك بأن يوازن بين الحقوق والمبادئ والأهداف المقررة بموجب الدستور،  »على النحو الذي سبق بيانه ».


مضمون الحيثية الرابعة:
في هذه الحيثية الأخيرة (علاقة بالمادة 17) قامت المحكمة الدستورية بما يلي:
-1- لأول مرة، وخلافا لحيثياتها السابقة، ستعتبر أن التصريح ببطلان المقررات القضائية الحائزة لقوة الشيء المقضي عمل يمس بحجيتها، ومن تم يمس بمبدأ الأمن القضائي.
-2- ولأول مرة سوف تقرر أن هذ الأمر، رغم ما فيه من مساس بمبدأ الأمن القضائي، يمكنه دستوريا أن يرد لكن فقط على سبيل الاستثناء.
-3- وخلافا لما قررته في الحيثية الأولى، سوف تقرر أن الجهة القضائية التي سوف تبت في موضوع التصريح بالبطلان لعلة مخالفة النظام العام سوف تمارس سلطة تقديرية غير مألوفة ولا تخضع لأي ضوابط موضوعية يحددها القانون.
-4- وخلافا كذلك للحيثية الثانية، سوف تقرر أن إسناد صلاحية طلب التصريح بالبطلان إلى النيابة العامة بعلة مخالفة النظام العام يمنح هذه الأخيرة سلطة تقديرية غير مألوفة وغير خاضعة لضوابط قانونية موضوعية.
-5- واعتبرت أن التوقف عند الإطار الاستثنائي المبرر لهذه المسطرة يمكنه أن يتحقق بحصرها في حالات خاصة.
-6- ثم انتهت من كل ذلك إلى القول بأنه ما دامت الفقرة الأولى من المادة 17 قد خرقت  »المبدأ الدستوري للأمن القضائي » لما حملته من مساس بحجية الأحكام القضائية الحائزة لقوة الشيء المقضي، نظرا لكونها فتحت أمام القضاء بوابة ممارسة سلطة تقديرية غير مألوفة ودون ضوابط موضوعية محددة قانونا، ولم تحرص على حصر ذلك في حالات استثنائية، فإن المشرع يكون قد أغفل استنفاد صلاحياته المسندة إليه بموجب الفصل 71 من الدستور.


أعتقد أن مجرد تفكيك الحيثيات المذكورة قد أفصح عن كم التناقضات والأخلاط التي تضمنها قرار المحكمة الدستورية. ومع ذلك فلا بأس في إثارة الملاحظات التالية. وأرجو من القارئ الكريم أن يعذرني إذ سيرى أنني سأسوق ملاحظاتي دون بذل مزيد من الجهد في تصنيفها والتنسيق بينها. وحسبي أن أشير إلى الإشكالات التي تطرحها داعيا إلى بذل مجهود جماعي إضافي من أجل مزيد من استثمارها وتمحيصها.

ثانيا: ملاحظات على الحيثيات
إن الملاحظات التي سأسوقها هنا سوف تتبع ترتيب الحيثيات نفسها، في أفق الاشتغال عليها لاحقا بمنهج تركيبي مناسب.
فأما عن الحيثية الأولى، فإني أجلب النظر إلى ما يلي:
1- إن المحكمة الدستورية قد تناولت في هذه الحيثية  »المقررات القضائية الحائزة لقوة الشيء المقضي »، على الرغم من أن نص المادة 17 تحدث عن كل المقررات القضائية دون حصر من حيث حيازة قوة الشيء المقضي.
2- لقد قبلت المحكمة الدستورية هنا كقاعدة عامة إمكانية إخضاع المقررات المذكورة لإعادة فحص خارج إطار الطعون العادية وغير العادية المعتمدة من أجل القول ببطلانها بعلة مخالفتها للنظام العام. غير أنها لم تحل على أي سند دستوري أو قانوني أو حتى اجتهاد قضائي ولو حتى في القانون المقارن (رغم تحفظنا على استدعاء القانون المقارن هنا).
3- قبلت المحكمة هذه المكانة بشكل مطلق دون قيود بحكم مبدئي زعمت أنه يوافق الدستور، و لم تعتبر ولو على سبيل التحفظ أن من شأن مسطرة كهذه قد تمارس من نيابة عامة كانت أو لم تكن طرفا في الخصومة، انصرمت أم لم تنصرم آجال الطعن في حقها، وسواء كان المقرر باتا أم لا، أن من شأن ذلك المساس بأي مبدأ دستوري أو بقوة المقررات أو بحقوق الدفاع!.


وأما عن الحيثية الثانية، فإن المحكمة:
1- بعدما اعتبرت أن تخويل النيابة العامة صلاحية التماس التصريح ببطلان المقرر القضائي حماية للنظام العام يدخل ضمن اختصاصاتها ولا يخالف الدستور، دون أي تحفظات أو قيود، عادت لتوحي بمعارضة هذه الصلاحية  »لمبدأ الأمن القضائي ». غير أن المثير هو أنها لم تر في تدخل القضاء نفسه للتصريح بالبطلان المذكور أي مخالفة لأي مبدأ دستوري من خلال الحيثية الأولى، أما أن يسند أمر تقديم الطلب إلى النيابة العامة، فعلى الرغم من أنه دستوري، إلا أن من شأنه مخالفة مبدأ دستوري!!
2- استدعت المحكمة الدستورية مفهوم  »الأمن القضائي للأفراد والجماعات » الوارد في الفصل 117 من الدستور، والذي جاء في سياق تكليف القضاء بحمايته، واتخذت منه مبدأ دستوريا: مبدأ الأمن القضائي. لكنها لم تكلف نفسها عناء تعريف هذا المبدأ! لا مضمونه، ولا مقتضياته، ولا حدوده! علما بأنها استدعته أو بالأحرى  »اخترعته » لتجعله قيدا أو حائلا دستوريا أمام نص قانوني، فكان الأحرى بها العناية بتعريفه، غير أنه لم تر لذلك داعيا…
3- بيد أن الملفت للنظر هو أن المحكمة جعلت بطريقة غير مباشرة من مضامين  »مبدأ الأمن القضائي » ما وصفته بأنه  »حق المحكوم لصالحهم في التمسك بحجية المقررات القضائية الحائزة لقوة الشيء المقضي به وإنفاذ آثارها ». وهنا لا مناص من إثارة الأفكار التالية.
إن مفهوم الأمن القضائي قد ورد في الفصل 117 من الدستور، الذي جعل القاضي le juge وليس رجل القضاء le magistrat مكلفا بحماية حقوق وحريات الأفراد و الجماعات و »أمنهم القضائي ». وهو ما يتضح معه أن مفهوم الأمن القضائي يتحدد بكونه نتيجة ما يقوم به القاضي لحماية الحقوق والحريات المكفولة للأفراد والجماعات، بمعنى أن الأمن القضائي هو ما يتحقق للناس بتدخل القضاء لحماية حقوقهم وحرياتهم، فهو نتيجة ممارسة القضاء لوظيفته الأساسية المذكورة.

 وحتى لو أردنا تقديم هذا المفهوم بشكل مستقل عن وظيفة حماية الحقوق والحريات، فستكون دلالة ذلك أن الأمن القضائي مطلب يتحقق بتدخل القاضي لحماية مصالح الناس، فهو أمن هؤلاء الذي يتحقق بتدخل القضاء، ومن ثم وصفه بالقضائي. لكن لا شيء يسوغ القول بأن  »الأمن القضائي » مبدأ دستوري يعني حماية قوة المقررات القضائية، لأن ذلك يؤول إلى جعل الأمن القضائي المقصود في الفصل 117 هو أمن المقرر نفسه، وهو أمر غريب Absurde! فتحقيق الأمن القضائي تتحقق إذن بتأمين ولوج الأشخاص إلى القضاء لتأمينهم في حقوقهم وحرياتهم.

 أما قوة المقررات القضائية وإلزاميتها فهي مبدأ دستوري بموجب الفصل 126 الذي ينص على أن  »المقررات القضائية النهائية ملزمة للجميع ». مع الإشارة إلى ضرورة تصويب الصيغة الدستورية التي تحدثت عن  »الأحكام النهائية jugements définitifs » بينما المراد  »المقررات الباتة Décisions irrévocables ».
مهما يكن من أمر، فإن المحكمة الدستورية لم تر داعيا للتدخل في تأصيل ما وصفته بالمبدأ الدستوري المتمثل في الأمن القضائي، وعمدت إلى توظيفه دون تبرير لتستخلص منه نتائج تقيد بها نصا تشريعيا!
الفكرة الثانية مفادها أن المحكمة الدستورية جعلت إلزامية المقررات القضائية الحائزة لقوة الشيء المقضي منحدرة من  »مبدأ الأمن القضائي »، وأتعبت نفسها في ذلك (أو ربما لم تتعب نفسها في الواقع باعتبار ما أسلفناه)، رغم أنها مؤسسة على الفقرة الأولى من الفصل 126 من الدستور. فلماذا ذهبت هذا المذهب؟.
وعلى مستوى ثالث، ليس من الواضح لماذا حصرت دلالة إلزامية المقررات الحائزة لقوة الشيء المقضي في  »حق المحكوم لصالحهم في التمسك بحجيتها وإنفاذ آثارها »؟ والحال أن الفصل 126 يجعل لها مدى مطلقا فهي تطال المحكوم لصالحه والمحكوم ضده وحتى الغير…
4- نلاحظ كذلك أن المحكمة الدستورية في عدة مواقع تخلط بين مفهوم حجية المقررات ومفهوم حيازتها لقوة الشيء المقضي!
5- ويبقى أخطر ما ينحدر من هذه الحيثية الثانية هو أنها جعلت قوة المقررات القضائية الباتة مسألة خاصة لا تعني سوى من استفاد منها دون غيره، ولا علاقة له بالنظام العام ولا بأي مبدأ دستوري عام! ولعل هذا الموقف نفسه ينسف موقف المحكمة من أساسه، كما أنه ينقض المبدأ الدستوري الواضح المنصوص عليه في الفقرة الأولى من الفصل 126 من الدستور!,

ذ. محمد الباكير*: أستاذ بجامعة الحسن الثاني ومحامي بهيئة الدار البيضاء/ عضو المجلس الوطني لحقوق الإنسان.

اترك تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


شروط التعليق :

عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

الاخبار العاجلة