المادة 9 من قانون المالية وأزمة تنفيذ الأحكام القضائية: تأملات من واقع الممارسة

sadaalbarlaman2 يونيو 2025آخر تحديث :
المادة 9 من قانون المالية وأزمة تنفيذ الأحكام القضائية: تأملات من واقع الممارسة

بقلم: الأستاذ زكرياء الغلماني*:”صدى البرلمان”//-جاءت فكرة هذا المقال عقب حديث عفوي دار بيني وبين صديق عزيز مساء البارحة، حيث عبّر عن معاناته المستمرة منذ سنوات جراء امتناع إحدى مؤسسات الدولة عن تنفيذ حكم قضائي نهائي صادر لصالحه.

هذا الحديث أضاء في ذهني واقعًا مريرًا يعيشه العديد من المواطنين، الذين يجدون أنفسهم أمام جدار من التعنت الإداري، مما يطرح تساؤلات مشروعة عن مصير العدالة في بلادنا.

إن هذه القضية الشخصية ليست فريدة من نوعها، بل هي انعكاس لظاهرة أوسع تتجلى في امتناع بعض الإدارات عن تنفيذ الأحكام القضائية، تارة تحت ذرائع إدارية، وتارة أخرى بسبب غياب الاعتمادات المالية، مما يضع المواطن في حلقة مفرغة من المماطلة والانتظار.

وفي هذا السياق، تبرز المادة 9 من قانون المالية لسنة 2020 كنموذج صارخ على ردة تشريعية تمس جوهر العدالة، حيث نصت المادة 9 على ما يلي:

“يتعين على الدائنين الحاملين لأحكام قضائية تنفيذية نهائية ضد الدولة أو الجماعات الترابية ألا يطالبوا بالأداء إلا أمام مصالح الآمر بالصرف للإدارة العمومية أو الجماعات الترابية المعنية.

في حالة صدور حكم قضائي نهائي قابل للتنفيذ يلزم الدولة أو جماعة ترابية أو مجموعاتها بأداء مبلغ معين، يتعين الأمر بصرفه داخل أجل أقصاه 90 يومًا ابتداء من تاريخ الإعذار بالتنفيذ في حدود الاعتمادات المالية المفتوحة بالميزانية لهذا الغرض.

وإذا أدرجت النفقة في اعتمادات تبين أنها غير كافية، يتم عندئذ تنفيذ الحكم القضائي عبر الأمر بصرف المبلغ المعين في حدود الاعتمادات المتوفرة بالميزانية، على أن يقوم الآمر بالصرف وجوبًا بتوفير الاعتمادات اللازمة لأداء المبلغ المتبقي في ميزانيات السنوات اللاحقة، وذلك في أجل أقصاه أربع سنوات، دون أن تخضع أموال وممتلكات الدولة والجماعات الترابية ومجموعاتها للحجز لهذه الغاية.”

إن هذه المادة، التي تم تمريرها في قانون المالية لسنة 2020، تمنع بشكل صريح الحجز على أموال وممتلكات الدولة والجماعات الترابية لتنفيذ الأحكام القضائية، مما يضع المحكوم لهم في مواجهة مباشرة مع تعنت بعض الإدارات، ويجعل تنفيذ الأحكام القضائية ضد الدولة أمرًا شبه مستحيل.

لقد كان من المنتظر، أو على الأقل من المأمول، أن يُبدي بعض الزملاء المحامين الذين يشغلون مواقع سياسية حساسة، موقفًا أكثر وضوحًا من هذه المادة، لما لها من أثر بالغ على مصداقية الأحكام القضائية، وعلى ثقة المواطن في العدالة. لا أتحدث هنا عن تحميل المسؤولية المطلقة لهؤلاء الزملاء، ولكنني أسمح لنفسي بإبداء لوم مهني وأخلاقي تجاه القبول الضمني أو التبرير غير المقنع الذي بدر عن بعضهم حيال هذه المادة، التي تمس بجوهر مبدأ سمو القانون وخضوع الإدارة للقانون.

وفي هذا السياق، لا بد من التنويه بالموقف الجريء لهيئة المحامين بالرباط، والتي كانت الهيئة الوحيدة على الصعيد الوطني التي خرجت إلى الشارع للتعبير عن رفضها الصريح للمادة التاسعة من قانون المالية لسنة 2020، معتبرةً إياها انتهاكًا خطيرًا لسلطة القضاء ولمبدأ تنفيذ الأحكام. وقد كان نقيب الهيئة آنذاك، الأستاذ النقيب محمد بركو، من الأصوات المهنية التي دافعت بقوة عن استقلالية العدالة ورفضت التطبيع مع هذا التراجع التشريعي، في موقف يسجل له ولمجلس الهيئة.

ذلك أن تنفيذ الأحكام القضائية ليس إجراء شكليًا، بل هو الوجه العملي للعدالة، والركن الذي تقوم عليه دولة القانون والمؤسسات. فبدون التنفيذ، تصبح الأحكام حبراً على ورق، وتُفرغ وظيفة القضاء من مضمونها الحقيقي، مهما كانت الضمانات المسطرية والمبادئ الدستورية المعلنة.

إن ما نعيشه اليوم، وخصوصًا في الملفات التي يكون فيها المحكوم عليه جهة عمومية، يكشف هشاشة في ضمانات التنفيذ، ما يستدعي طرح حلول جريئة وعملية. وفي هذا الصدد، أرى أن من بين المداخل التي يمكن التفكير فيها:

إحداث سجل وطني خاص بتنفيذ المقررات القضائية، يُعنى بتتبع تنفيذ الأحكام ضد الأشخاص الذاتيين والمعنويين، مع إمكانية نشر معطيات إحصائية دورية تعكس مدى احترام هذه الجهات لسلطة القضاء.

تفعيل دور قاضي التنفيذ، ليس فقط كجهة إشرافية، بل كسلطة تقريرية حقيقية، عبر منحه صلاحيات أوسع تمكنه من إلزام الإدارة بتنفيذ الأحكام تحت طائلة الجزاء.

إن الدفاع عن مصداقية الحكم القضائي، هو دفاع عن جوهر العدالة، والمحاماة كانت وستبقى في طليعة هذا النضال، مهما كانت إكراهات السياسة وتعقيدات التدبير العمومي. فالمحامي، وإن تقلّد منصبًا سياسيًا، لا يسعه أن يخلع رداء الدفاع، لأنه إن فعل، خسر الإثنين معًا: المهنة والمصداقية.

وفي النهاية، لا بد أن نقرّ أن المادة 9، في صيغتها الحالية، تشكل تراجعًا عن مبدأ دستوري راسخ، وهو أن الأحكام القضائية ملزمة، وأن الإدارة خاضعة للقانون، ولا يمكن تحت أي مبرر – حتى ولو كان تنفيذ السياسات العمومية – أن نعطل العدالة.

وإذا كان هذا المقال قد وُلد من نقاش عفوي بينصديقين، فإن أمنيتي الصادقة هي أن يُسهم في إثارة نقاش مهني ووطني، يُعيد ترتيب الأولويات، ويضع تنفيذ الأحكام القضائية في صلب الإصلاح الحقيقي لمنظومة العدالة.

*المحامي بهيئة المحامين بالرباط.

اترك تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


شروط التعليق :

عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

الاخبار العاجلة